من رواد الطب الإسلامي ..
ابن النفيس .. مكتشف الدورة الدموية
د. عبد الحفيظ الحداد
الحمد
لله والصلاة والسلام على نبينا محمد بن عبد الله وآله وصحبه ومن والاه
وبعد .. فإن مسيرة الحضارة في تاريخنا الإسلامي قد بلغت شأوا عظيماً وحققت
إنجازات باهرة وسطع في سمائها نجوم لا زالت قوافل العلماء تهتدي بمعارفهم
ومختلف الشعوب تنتفع بخبراتهم.
ومن تلك الشخصيات الفذة ابن النفيس الذي نتحدث عنه في هذه الحلقة للأسباب التالية:
1. تقديم صورة عملية لالتزام المسلمين بالمنهجية العلمية القائمة على التحقيق والضبط والجدية والإنصاف.
2.
تقديم برهان من واقع تاريخنا المجيد على خطأ ما يتوهمه البعض من أنه بعد
صدر الخلافة العباسية (لا يوجد عالم واحد من المسلمين قد تميز بالتمكن في
مجال من مجالات العلوم الكونية)، وفارس برهاننا هنا طبيب عظيم من أعيان
القرن السابع الهجري.
3. تنبيه المسلمين للحذر من تصديق أكاذيب
وافتراءات الأعداء الذين يتنكرون للواقع ويعملون على طمس الحقائق والوقائع
ومن ذلك أنهم ينسبون اكتشاف الدورة الدموية للانكليزي هارفي أو للإسباني
سافيتوس مع أن مكتشفها هو طبيبنا المسلم ابن النفيس.
4. البرهنة
الواقعية على أن العلماء المسلمين لم يتوقفوا عند حد قراءة علوم غيرهم
وتمثل معارفهم بل إنهم أبدعوا أشياء جديدة وابتكروا أموراً عديدة في كل
تخصص فأثروا بذلك مسيرة المعرفة الإنسانية ودفعوها في اتجاه سعادة البشرية
جمعاء.
5. وسنرى في شخصية ابن النفيس البرهان على إمكانية محافظة
الإنسان على تنفيذ مستلزمات التدين في أداء عملي متسق بدون إفراط ولا
تفريط.
فمن هو ابن النفيس الذي نترجم له في هذه الصفحات ؟ وما هي
ميزاته ؟ وما أبرز نشاطاته ؟ وهل كان له منهج متميز. وهل خلف لنا آثاراً
علمية رفد بها مسيرة تراثنا الخالد ؟ هذا ما نجد الإجابة عليه في هذه
الأسطر، وبالله التوفيق.
أولاً: نشأته ومعالم شخصيته
هو أبو
الحسن علاء الدين ابن أبي الحزم المعروف بابن النفيس القرشي، طبيب عربي
مسلم وفيلسوف وفقيه ولغوي، ولد عام 607هـ في دمشق وتوفي بالقاهرة 687هـ،
ولقد نشأت في دمشق ودرس الطب على يد مهذب الدين الدخوار أشهر أطباء عصره
وكذلك تتلمذ على عمران الإسرائيلي ومارس الطب ببراعة ونجاح ثم حضر إلى
القاهرة زمن الملك الكامل الأيوبي والقاهرة آنئذ مركز العلوم والفنون وبلد
إشعاع فكري، فمارس الطب هناك، ثم إن السلطان بيبرس اختاره طبيباً خاصاً له
فأصبح عميداً للمستشفى المنصوري، بل عميداً للأطباء في مصر، مع مزاولته
مداواة المرضى في داره الفارهة والتي كان يقال عنها: لا مثيل لها، بل إن
هذه الدار بما فيها وقفها على البيمارستان المنصوري.
كان ابن النفيس
رجلاً طويل القامة نحيل الجسم جم الذكاء واسع المعرفة متضلعاً في مختلف
العلوم مستقيماً في كل الشؤون عاش قرابة ثمانين سنة قضاها في طاعة الله
مؤدياً أمانة دينه حكيماً في مزاولة مهنة الطب، ثم إنه عرف بطول البال
ولين الجانب وعزف عن الزواج لكي يتفرغ للعلم وأهله، ولقد كان باحثاً من
الطراز الممتاز ألف في الطب كما ألف في علوم أخرى مثل المنطق والفلسفة
واللغة والبيان والحديث وأصول الفقه، وكان واثقاً من نفسه متمكناً في ما
يقول، واضح العبارة سهل الأسلوب، وكان يتمتع بشجاعة أدبية، مع حسن سيرة
وطيب عشرة، حاضر البديهة يغلب عليه الهدوء مع الاتزان، والتنزه عما لا
يليق والحكمة في التصرفات، يروى أنه مرض في آخر عمره فوصف له النبيذ فرفض
أن يأخذه قائلاً: ( لا ألقى الله وفي بطني شيء من الخمر).
ثانياً: منهجه العلمي والمسلكي:
لقد
تميز ابن النفس بأصالة الرأس واستقلال الفكر واعتماد المنهج التجريبي في
إثبات الحقائق العلمية: من رصد، ومشاهدة، ومقارنة، وملاحظة، وإجراء تجارب،
كما أنه كان يؤمن بحرية القول وضرورة الاجتهاد، وكان لا يتردد في نقد
أخطاء كبار الأطباء السابقين كجالينوس وابن سينا وغيرهم، كما كانت طريقته
في العلاج تعتمد على تنظيم الغذاء أكثر من استخدام الأدوية، ثم إنه كان
يفضل الأدوية المفردة على المركبة ولذلك يقول الدكتور محمد أمين فرشوخ: (
وابن النفيس كان يخضع أبحاثه لمنهج علمي واضح، فقد درس أعمال من سبقه من
العلماء والأطباء قبل أن يحكم على غير السليم منها ويعتمد الجيد لبناء
نظريات جديدة، وقد اهتم بالظواهر والعوامل المؤثرة في جسم الإنسان أكثر من
اهتمامه بالطب العلاجي، لذلك يمكننا اعتباره عالماً محققاً، بل كان رائداً
في علم وظائف الأعضاء، مع تسجيلنا إنجازاته التي سبق بها عصره، كما أنه
كان الأول فيمن كتب في أصول الفقه وعلم الطب.
ثالثاً: بعض صفات ومآثر ابن النفيس في الطب
- كانت طريقته في معالجة المرضى تعتمد على تنظيم الغذاء أكثر من الاعتماد على الأدوية والعقاقير.
- كان ذا أفق رحيب علمياً، وتفكير شامل ونشاط مستمر في التجارب.
-
ويذكر الدكتور عامر النجار عنه ما يؤكد أنه: (كان عالماً بالتشريح حاذقاً
بهذا الفن على الرغم من أنهم زعم أنه لم يمارس التشريح بوازع الشريعة
والرحمة – فكتاباته العلمية الدقيقة عن التشريح تؤكد دقته به).
-
وأما عن غزارة علمه فتحدثنا الدكتورة زيغريد هونكة فتقول: ( ويروي الرواة
أنه كان كتب كتبه دون الرجوع إلى أي مرجع وكأنه سيل عرم متدفق، وبينما كان
مرة في أحد حمامات القاهرة التي بلغت عدداً جاوز 1200 وهو منهمك في دلك
جسمه بصابون زيت الزيتون النقي إذ به يخرج فجأة من حوض الحمام إلى القاعة
الخارجية ويطلب ورقاً وريشة وحبراً ويبدأ في كتابة رسالته عن النبض حتى
إذا ما انتهى منها رجع ثانية إلى الحمام وكأن شيئاً لم يحدث.
- كان
يحفظ كتاب القانون لابن سينا عن ظهر قلب، ولذلك كان يلقي المحاضرات عن
جالينوس وعن ابن سينا دون أي سابق تحضير، ولقد قال بخصوص كتبه التي ألفها:
( لو لم أكن واثقاً من أن كتبي ستعيش بعدي مدة عشرة آلاف سنة لما كتبتها
).
- نبوغه في فن المداواة من خلال جدارة ومهارة مسلكية منقطعة النظير حتى قيل عنه بأنه كان موسوعة في المعرفة تمشي على قدمين.
- أصالة تفكيره حيث كان يخضع ما يقرؤه للنظرة النقدية الممحصة.
-
بل إنه كسر طوق التقيد بالطرق الموروثة عن السابقين ودعا إلى التحرر من
هيمنة الأفكار التي ظهر فسادها في الوقت الذي كان غيره يرهب من انتقادها
أو مخالفتها.
- أمانته العلمية وإنصافه وعدم تنكره لفضل العلماء
الآخرين وقد كان يقول بصدد مخالفته لابن سينا: (خالفناه في أشياء يسيرة
ظننا أنها من أغاليط النساخ).
- جمعه بين مختلف العلوم بشكل منسجم لا تفاوت فيه.
رابعاً: اكتشاف ابن النفيس للدورة الدموية
لقد
تتبع ابن النفيس مسار الدم في العروق ولاحظ سريانه في الجسد لذلك فإنه قد
استطاع – ولأول مرة في التاريخ – وصف الدورة الدموية فكان بذلك هو المكتشف
الأول لها قبل سيرفيتوس الأسباني وهارفي الانكليزي، ولقد أثبت ابن النفيس
أن الدم ينقى في الرئتين، فقد اهتدى إلى أن تجاه الدم ثابت وأنه يمر من
التجويف القلبي الأيمن إلى الرئة حيث يخالط الهواء، ومن الرئة عن طريق
الشريان الوريدي – الوريد الرئوي – إلى التجويف الأيسر، فالدم يأتي غليظاً
من الكبد إلى التجويف الأيمن حيث يلطف ثم يمر من الشريان الوريدي إلى
الرئة حيث ينقسم إلى قسمين: قسم رقيق يصفى في مسام الشريان الرئوي. وقسم
غليظ يتبقى في الرئة عن طريق القصبة الهوائية ويدخل الشريان الوريدي –
الوريد الرئوي – عبر جدارها النحيف ثم يصل الدم الرقيق المخلوط بالهواء
إلى التجويف الأيسر حيث تتكون الروح التي ترج منه إلى الأورطة فالشرايين
فالأنسجة، وأما غذاء القلب فيكون عن طريق أوعية خاصة تمر في صميم عضلة
القلب.
خامساً: قصة فضح الفرية التي تنسب اكتشاف الدورة الدموية لهارفي وغيره
من
المؤسف أن يردد بعض كتاب المسلمين والمنتسبين للعربة كذب أعدائنا حيث
يذكرون أن هارفي الانجليزي أو سيرفيتوس الإسباني قد اكتشفا الدورة الدموية
حيث إن هذا الكذب قد استمر قروناً ثلاثة إلى أن قبض الله من يفضح الكذب
ويصحح الخطأ.
ها هو الطالب المصري محي الدين التطاوي قد جاء إلى
مدينة فرايبورغ في ألمانيا ليدرس الطب هناك وأثناء متابعته مسيرة أبحاثه
اكتشف مخطوطة لابن النفيس تثبت بدون شك أن سيرفيتوس وهارفي قد استقوا
المعلومات التي نحلوها لأنفسهم وظهر للعالم على أنهم قد اكتشفوا الدورة
الدموية، لذلك فقد اطلع الطبيب أساتذته على اكتشافه هذا مظهراً لهم النصوص
من واقع مخطوطة ابن النفيس وهم بدورهم أرسلوا تلك النصوص العربية المقتبسة
من كتاب ابن النفس – بعد أن أخرجوا من مكتبة الدولة كل المخطوطات القديمة
وأشبعوها بحثاً وتنقيحاً ومقارنة – إلى زميلهم المستشرق الألماني مايرهوف
نزيل القاهرة يسألونه عن رأيه في ادعاء الطبيب المصري، وأذهل الاكتشاف
مايرهوف فأبلغ زملاءه بصحة ما ذهب إليه تلميذهم التطاوي وأرسل بالخبر إلى
المؤرخ الكبير، سار ثم على جناح السرعة فأدرجه في نهاية كتابه الذي كان
يعده وهو مقدمة في تاريخ العلم ثم أثبته في الطبعة الثانية من كتاب دائرة
المعارف الإسلامية فتأكد الحق، وهو أن ابن النفيس هو مكتشف الدورة الدموية
الصغرى. ثم إنه قد أثبت مؤرخ الطب الفرنسي بي ني وتلميذه الدكتور عبد
الكريم شحادة أن سيرفيتوس قد اطلع على ترجمة كلام ابن النفيس فأفاد منها
وتكلم عنها دون أن يذكر أنه استقاها من كلام ابن النفيس. وكذلك فعل هارفي
عندما نقل عنه هذا الاكتشاف، ولكن لم يشر إلى مصدره الذي هو ابن النفيس.
فكم
من فارق بين أمانة المسلمين عندما نقلوا علوم غيرهم فلم ينتحلوا لأنفسهم
المعلومات التي استقوها وبين خيانة الذين كانوا يعبون الحقائق العلمية
التي خلفها أجدادنا ثم ينسبونها إلى أنفسهم وكفى بها خيانة ).
إن
مستشرقة أوربية قامت بتكذيب ذلك حيث قالت عن ابن النفيس إنه: (أول من نفذ
ببصره إلى أخطاء جالينوس ونقدها ثم جاء بنظرية الدورة الدموية. لم يكن
مارفيتوس الأسباني ولا هارفي الانكليزي بل كان رجلاً عربياً أصيلاً من
القرن الثالث عشر الميلادي، وهو ابن النفيس الذي وصل إلى هذا الاكتشاف
العظيم في تاريخ الإنسانية وتاريخ الطب قبل هارفي بأربعمائة عام، وقبل
سارفيتوس بثلاثمائة عام).
ومن المدهش جداً أن مجلة عربية تصدر في بلد
عربي مسلم ويدعي القائمون عليها أنهم يلتزمون الموضوعية وينشدون التقدم يم
ينشرون في مجلتهم صدى أكاذيب أعدائنا فيساهمون بذلك في طمس معالم الحق
وترويج الهراء والإفك ويا للأسف.
سادساً: أهم أعمال ومنجزات ابن النفيس
1- معرفة تركيب الرئة والأعوية الشعرية وشرح حقيقة الحويصلات الرئوية على الوجه الصحيح.
2-
فهم وظائف الرئتين والأوعية الدموية التي بين القلب والرئتين وبذلك خالف
فهم ابن سينا، ومن قبله أرسطو، كما يؤكد ذلك د. عبد الله الدفاع.
3- اكتشاف الدورة الدموية الصغرى وباكتشافها قضى على خطأ جالينوس السابق في هذه القضية.
4-
فهم وظائف الشرايين الإكليلية وتصحيح الخطأ الذي مفاده أن تغذية القلب من
البطين الأيمن وبالتالي فهو أول من اكتشف الدورة الدموية في الشرايين
الإكليلية وبذلك صحح خطأ آخر كان سائداً من (أن أوردة الرئة فيها هباب وهو
رأي جالينوس).
5- شرح حقيقة تجدد الدم بالهواء من الرئتين خلافا لما كان سائداً من رأس جالينوس في هذه القضية.
6- كشفه الاتصال بين أوردة الرئتين وشرايينها حيث إن ذلك يكمل رسم صورة الدورة الدموية ضمن الرئة.
7- وكما أشرنا في الفقرة (5) فإنه قد سبق إلى تصحيح خطأ جالينوس فقرر أن الشرايين في الرئة تحتوي الدم وليس فيها هباب.
8- اكتشف غلظ جدران أوردة الرئتين بشكل اكثر من شرايينهما.
9- جزمه بعدم وجود فتحة بين البطينين في اقلب خلافاً لرأي جالينوس.
وملاحظة التدرج بالمداواة من المفرد إلى المركب عند الاقتضاء.
11- فهم علاقة العين بالدماغ وأنها (ألة للبصر وليست باصرة).
سابعاً: أهم مؤلفات ابن النفيس
(علماً بأن الدكاترة فروخ وحلاق في كتابهم: تاريخ العلوم عند العرب أوصلوها لـ24 مؤلفا). إلا أننا نكتفي بالقول:
لعل
أهم مؤلفات ابن النفيس تلك الموسوعة التي بدأ بتأليفها في علوم الطب وكان
من المتوقع أن تبلغ ثلاثمائة جزء. ولكن المنية عاجلته ولم يتم منها إلا
كتابة ثمانين جزءاً فقط، وكما ذكر د. عبد الحليم المنتصر فإن اسم هذا
الكتاب – الموسوعة – هو: (الشامل)، والجزء الذي أنجزه منه وبيضه ثمانون
سفراً، هو الأن وقف بالبيمارستان المنصوري في القاهرة).
ونشير هنا إلى أن أهم مؤلفات ابن النفيس هي:
1- الشامل في الطب والموجود منه ثمانون جزءاً.
2- شرح القانون وهو عدة أسفار، والمقصود بالقانون كتاب ابن سينا.
3- موجز القانون وهو اختصار لكتاب ابن سينا (القانون).
4- كتاب شرح تقدمة المعارف، وكتاب التقدمة هو لأبقراط.
5- كتاب تشريح القانون، وفيه وصف للرئة.
هذا وعلى الله القصد، والحمد لله رب العالمين.